حدثني صديق لي فقال : بالأمس وقعت في يدي رسالة إعجاب من فتاة لزميلتها وسأقرأ عليك بعضاً من فصولها تقول في رسالتها : الحب لا ينتظر الإرادة ، مشاعر الإعجاب هي الوحيدة التي تلوى عنقه للمحبوب .
وفي تقديري أنك أنت فقط استطعتي أن تلوي هذه المشاعر تجاهك . لقد كنت أبحث عن فتاة ذات مشاعر دافئة ، وقد أضناني البحث إلا أنني وجدت ضالتي فيك ، وانقادت مشاعري لأول ولهة من خلال حديثك الجذّاب .....
ومضت تقول : الحب هو الوردة الحمراء التي أقلبها في يدي صباح كل يوم ، وقبيل الغروب أجدني أتنشّق عبير ريح هذا الحب الفواحة . عذراً اليوم أنت معي في يقظتي وحلمي ، في ليلي ونهاري . أنت معي في لكل لحظة .. صورتك هي الصورة التي باتت تسامر ليلي ... الخ ماقالت في رسالتها تلك إلى من أحبتها .......
وهذه فتاة أخرى لها قصة مماثلة تقول فيها : ماكنت أشعر ولا لحظة أن في الوجود رقيقة المشاعر مثلك ، ولا كنت أتخيّل أنه يمكن أن أجد وردية المشاعر كحالك ... اليوم صورتك معي في طريقي ، وهي معي تلازمني في نومي ، وتجاذب معي الليل الطويل في عالم أحلامي ، أنتي اليوم الأمل ، والحياة ، والمشاعر ، بل أنت الحب كله بكل ما يحمل من معاني ....
وثالثة تقول : تعلمت في دراستي أن الناس أذواق ، وهم في الوقت ذاته مشاعرمختلفة ، وفي ليلة زفاف زميلتنا أمل رأيتك من بين الحاضرات ، وسمعت حديثك ، ورأيتك ذوق لباسك حينها شعرت لأول وهله أن ما تعلمته ليس على إطلاقه فأنت صورة أخرى من نفسي بكل مشاعرك وأحاسسيك ، وذوقك فهل تسمحين لي بالتطفّل فأكون خليلتك ؟ أنتظر ردك عاجلاً فمساحة الأشواق لدىّ لا تقبل التاخير .
هذه ثلاث رسائل الأولى وجدها أحد الأصدقاء فبعث بها إلىّ ، والثانية قرأتها في إحدى المجلات السائرة ، والثالثة سارت بها الركبان في كل مكان فجاءتني فصولها تروى على كل لسان . وأمام هذه القصص المتتالية رأيت أن المناسب أن أتحدث إلى تلك الأخوات التي وقعن فريسة للإعجاب .
أيتها الفاضلة : إن مشاعر الحب فيك كإنسانة أمر فطري ، والحب أمر ممدوح ولا يذم في حياتك أو حياة غيرك . بل إن مشاعر الحب الفياضة ليست موطناً للاتهام في ذاتك ، بل هي مشاعر ود وصفاء كما تتطلب منا الحياة نظير مجرياتها ومكدراتها لكن الشيء الذي أوجه هذه السهام إليه هو ذلك الحب الذي يبدو في بدايته عفيفاً صادقاً ثم ما يلبث مع الأيام أن يتحول إلى عشق مشبوه فتتوسع تلك العلاقات حتى تأتي تلك الصور التي عرضتها في بداية حديثي .
إنني أجزم أيتها الفاضلة أن أكثر هذه العلاقات داخلها الشيطان وزيّن صورتها ، وجمّل أحاديثها وحينئذ تحولت صورتها من صورتها البدائية التي تلك الصور المشبوهة . وهذا العشق الذي أصبح حديث كثير من الفتيات في ما بينهم تجاوز حده المشروع ومن الصور التي تدل على هذا التجاوز :
كثرة اللقاءات وتكررها فقد تراها تتردد على زميلة لها في فصل آخر ولعدة مرات دون أن يكون هناك سبب لهذا التردد إلا شوق الحب وزيادة معاني العشق ..
وقد تراها دائماً في الفسح وأوقات الخلاوات بين جدران المدرسة وفي ممراتها الضيقة ... وقد تتجاوز ذلك فتبقى هي وإياها في أحد الفصول أو مرافق المدرسة لفترات طويلة وقد تتعثّر في يومها وتتمنى بفارق الصبر انتهاء يومها الدراسي ذلك أن معشوقتها لم تداوم ذلك اليوم لتلك المدرسة ...
وقد تلقاها في المدرسة وتقضي معها معظم وقتها وحين تعودان إلى البيت تجدها حريصة على الاتصال بهذه الزميلة على بيتها وقد يستمر هذا الاتصال فترات طويلة جداً تصل للساعات ، أو تكون متقطّعة وفي فترات متنقّلة ، وللأسف قد تكون هذه الصورة ليست خاصة بالطالبات فقط وإنما تجاوزت إلى بعض معلماتنا الفاضلات وقد حُكيت صور كثيرة وانتشرت أخبار متكاثرة عن هذه الأحوال ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدّث عن خطر العشق : وهذا داء قد أعيا الأطباء ، وعزّ عليهم شفاؤه ، وهو لعمر الله الدال العضال ، والسم القتّال الذي ما علق بقلب إلا وعز على الورى استنقاذه من إساره ، ولا اشتعلت ناره في مهجة إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره ..
وقال في موضع آخر : وهو يتحدث عن العشق قال وهو ـ أي العشق ـ أقسام : فتارة يكون كفراً كمن اتخذ معشوقه نداً يحبه كما يحب الله ، فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه ؟ ! فهذا عشق لا يُغفر لصاحبه فإنه من أعظم الشرك ، والله لا يغفر أن يشرك به ، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك . اهـ .
إن العشق أيتها الفاضلة حين تتأملين فيه لا تظهر فيه مصلحة دنيوية ولا دينية بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدّر فيه من المصلحة قرر ذلك العلامة ابن القيم حين قال وهو يتحدث عن هذه المفاسد فقال :
أحدها : الاشتغال بحب المخلوق وذكره عن حب الرب تعالى وذكره ، فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا يقهر أحدهما الآخر ويكون السلطان والغلبة له .
الثاني : عذاب قلبه بمعشوقه ؛ فإن من أحب شيئاً غير الله عُذّب به ولا بد كما قيل :
فما في الأرض أشقى من محب *** وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حين *** مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم *** ويبكي إن دنو حذر الفراق
فتسخن عينه عند الفراق *** وتسخن عينه عند التلاقي
والعشق وإن استعذبه صاحبه ؛ فهو من أعظم عذاب القلب .
الثالث : أن العاشق قلبه أسير في قبضة غيره يسومه سوء العذاب ، ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه .
الرابع : أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور
الخامس : أنه ربما أفسد الحواس أو بعضها إما إفساداً معنوياًُ أو صورياً . أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب ، فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان ، فيرى القبيح حسناً منه ومن معشوقه ، فهو يعمي عين القلب عن رؤية مساوئ المحبوب وعيوبه ... اهـ رحمه الله .
أيتها الفتاة : آثار العشق آثار قبيحة مذمومة ، وقد لا ترينها بادية واضحة لكنك لو صدقت في تتبّع آثارها لرأيتي من قلبك وحواسك وجوارحك آثاراً ربما قد تكون ليست لك على بال ، فتلك الفتاة التي ارتبطت بأخرى نتيجة لحسن صورة أو لجمال منطق أو لأي داع آخر قد تضيق الدنيا في عينيها لدرجة ألا تفسح الدنيا أبوابها إلا على رؤية خليلتها ومعشوقة قلبها الأمر الذي ينتج نتائج عكسية في حياتك ومستقبلك القادم .
وكثير من الحوادث التي نسمعها اليوم إنما هي نتاج لتلك المحبة المشبوهة لخليلة العمر أو لحبيبة الفؤاد ، فكثير من الفتيات التي قضت جزءاً كبيراً من حياتها تمارس هذا العشق ، حين دخلت عش الزوجية لم تنجح في حياتها الجديدة ، ذلك أن المشاعر الدافئة التي يحتاجها عريسها الجديد استنفذتها المسكينة في تلك الأيام وحينئذ لم تجد ما تعبر بها في حياتها الجديدة ولم تستفق إلا على صوت عريسها " طالق ، طالق ، طالق .. وهاهي تقول من حين فراق زوجي لي وأنا لم أجد لذة النوم الهادئة .. ذلك أن تلك الكلمة لا زال صداها في ذهني رفض أن يفارقني حتى حين أجد ألذ ساعات النوم . وتلك الفتاة الأخرى التي تقول ..
كان زواجنا جميلاً ورائعاً ، واستمرت بنا الحياة أياماً طويلاً .. وحين انسقت وراء حبل العشق الموهوم نتيجة لقاء في عرس لم يزل بي ذلك الحبل حتى أمسيت بين جدران أربعة فزوجي طلقني ، ورفض أن يشارَك في حبه حتى ولو من امرأة .. وهاهي رسالتي بين يديك فهل تجد لي حلاً
عاجلاً ... ومضت تقول : إن العشق يبدو جميلاً رائعاً في بدايته ، ويتمثّل في صورته الأولى عفيفاً للغاية ، وحين يتمكّن من القلب يوصل إلى لقاءات مشبوهة ، ويورد عز الفتاة إلى ذل ، وكم كنت أتمنى أن أحافظ على اتزاني حين دخلت تلك الأبواب عبثاً ولعباً . ..
إنني أكتب إليك رسالتي بعد إن شاع خبري في أوساط قريتنا ، وكنت على جانب من الجمال كبير ، وفي بداية حياتي تزاحم الخطاب علي بيتنا واعتذر أبي ذلك الوقت بحجة إكمال دراستي ، واليوم زهد فيّ أولئك الخطاب ، ولم يطرق بابنا خاطب واحد إلى اليوم ... وطال انتظاري كثيراً .. إنني حين أكتب إليك هذه الرسالة أتمنى أن أجد حلاً عاجلاً لهذه المشكلة ويعلم الله تعالى أنني اعتذرت عن لقاء من ارتبط بها نهائياً ، وبدأت أمارس أدوار حياتي من جديد أفلا تكون التوبة ماحية لما سلف .. وأنا لا زلت أنتظر ردك عاجلاً . اهـ كلامها .
أيتها الفتاة : هبي أن هذه الآثار لم توقف زحف الحب المشبوه في قلبك ، لكن كيف لك بلقاء ربك ومولاك يوم العرض الأكبر ، حين تقفين تحت حر الشمس ، وتتلوين من أثر الرمضاء .
حين يقف الناس والعرق يلجم أحدهم إلجاماً ، وآخرون تحت الظل الوارف ، فهل يا ترين في أي الموقفين تكونين حين تتجاوزين بهذا العشق حرمات الله تعالى ، أولم تسمعي يا رعاك الله أمر الله تعالى المؤمنات : ((.... وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ... ))
وحين تتجاوز تلك العين حرمات الله تعالى ، وتنساب تتخيّل مفاتن تلك الفتاه ، أو تجاعيد رأسها ، أو حتى تقاسيم وجهها إنما يرصد لها الرب هذه الخيانة العظيمة كما في قوله تعالى : (( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ))
فأين تهربين من نظر الله تعالى أيتها الفاضلة ؟ إن ثمة حقيقة مهمة في هذا الباب هي أن الله تعالى يمهل ، ويمد للمتجاوزات حدوده إلى أبعد ما تتصورين ثم حين لا تردعك الأيام ، ولا تستفيدين من عبر الأحوال قد يأخذك ويحكم أخذه ثم مهما حاولت الخلاص بعد ذلك قد لا تتمكنين .. وأخيراً أيتها الفاضلة لست مخولاً برصد تصرفاتك ، ولا رقيب على هواياتك ، غير أن خوفي على سوء النهايات أجبرني على الحديث معك عبر هذه الرسالة ، وحسبي أنني وقفت على أطراف الموضوع ، وتركت خباياه ، وجمّعت سهامي لألقي بها في خاصرته فلم تتجاوز أقدامه وأطراف أصابعه ... وتركت المساحة الشاسعة من هذه الأهواء دون تعليق مع أن بإمكان قلمي أن يقطر دماً من الواقع الأليم ... وما حوادث الطلاق التي انتشرت ، والصراعات التي تناثرت إلا بعض آثار هذا المرض . وفقك الله تعالى ، وحرصك من الشبه والفتن ، وصان عرضك من خدوش الريبة .
والله يتولاك برعايته .
موقع طريق الدعوة
www.tttt4.com --------------------
: